الجزاء من جنس العمل
اقاصيص قصيره جدا
الجزاء من جنس العمل
الحمد لله، والصلاه والسلام على رسول الله وعلى اله وصحبه ومن تبع هداه، وبعد:
فهذه مجموعه من المواقف التي تعرضت لها في حياتي، نظمتها في سلسله من الاقاصيص القصيره الى حد ما، مضيفا اليها دروسا وعبرا، جمعت من بطون الكتب، ومما وقفت عليه من ثقات المواقع الالكترونيه المعروفه بالطرح القيم والتاصيل الصحيح، عسى الله ان ينفع بها القارئ الكريم، والبقيه ستاتي تباعا – ان شاء الله.
نسال الله لنا ولكم الاخلاص في القول والعمل، وان يجعل ما كتبناه حجه لنا لا علينا، وان ينفعنا بما كتبنا، انه ولي ذلك والقادر عليه.
(1)
الجزاء من جنس العمل
ما زلت اذكر ذلك اليوم، كنت بانتظار اخ وصديق حبيب، فخرجت الى الشارع انتظر مقدمه، ووقعت امامي احداث هذه القصه :
البدايه كانت بمقدم مجموعه من الشباب، جلسوا على قارعه الطريق، وكل منهم يحكي عن بطولاته المخزيه والمشينه ، فقال احدهم: هل تعرفون فلانه ؟! هي صديقتي، واتصل عليها وتتصل علي مرات عديده في الليل والنهار عبر الجوال، وبدا كل منهم بالحديث عن امور مشابهه ، وبعد فتره انهى الشباب حديثهم، ثم تركوا المكان ورحلوا.
بعدها بدقائق جاءت مجموعه اخرى من الشباب، جلس احدهم في نفس مكان صاحبنا الاول، وقال احدهم متسائلا: هل هذا فلان؟
نعم، انه هو، هل تعلمون ان شقيقته هي صديقتي، وانا وهي على اتصال في الليل والنهار عبر الجوال؟!
قلت: سبحان الله، حقا “الجزاء من جنس العمل”، وعليهم تنطبق القصه “دقه بدقه ولو زدت لزاد السقا”.
نعم، “دقه بدقه ولو زدت لزاد السقا”، تلك القصه التي كثيرا ما ترددت على مسامعنا لناخذ منها العبر والدروس، كان يحكيها لنا الاهل في البيت، والشيخ في الجامع.
هذه القصه وردت في كثير من الكتب، وقد وقفت عليها في كتاب “عداله السماء”؛ للواء الركن محمود شيت خطاب – رحمه الله – وقد سردها باسلوب قصصي رائع.
واليك القصه :
كان تاجرا كبيرا، وكانت تجارته بين العراق وسوريا، يبيع الحبوب في سوريا، ويستورد منها الصابون والاقمشه ، وكان رجلا مستقيما في خلقه، يظهر عليه التدين، يزكي ماله، ويغدق على الفقراء مما افاء الله به عليه من خير، وكان يقضي حاجات الناس، لا يكاد يرد سائلا، وكان يقول: “زكاه المال من المال، وزكاه الجاه قضاء الحاجات”، وكان يعود مرضى محلته، ويتفقدهم كل يوم تقريبا، وكان يصلي العشاء في مسجد صغير قرب داره، فلا يتخلف عن الصلاه احد من جيرانه الا ويسال عنه، فاذا كان مريضا عاده، واذا كان محتاجا الى المال اعطاه من ماله، واذا كان مسافرا خلفه في عياله، وكان له ولد وابنه واحده بلغا عمر الشباب.
وفي يوم من الايام سال ولده الوحيد ان يسافر الى سوريا بتجارته قائلا له:
“لقد كبرت يا ولدي، فلا اقوى على السفر، وقد اصبحت رجلا والحمد لله، فسافر على بركه الله مع قافله الحبوب الى حلب، فبع ما معك، واشتر بها صابونا وقماشا ثم عد الينا، واوصيك بتقوى الله، واطلب منك ان تحافظ على شرف اختك”.
وكان ذلك قبل الحرب العالميه الاولى، يوم لم يكن حينذئذ قطارات ولا سيارات.
وسافر الشاب بتجاره ابيه من مرحله الى مرحله ، يسهر على اداره القافله ، ويحرص على حمايه ماله، ويقوم على رجاله، وفي حلب الشهباء، باع حبوبه، واشترى بثمنها من صابونها المتميز، وقماشها الفاخر، ثم تجهز للعوده الى ادراجه؛ الموصل الحدباء.
وفي يوم من الايام قبيل عودته من حلب، راى شابه جميله تخطر بغلاله من اللاذ[1]،في طريق مقفر بعد غروب الشمس، فراودته نفسه الاماره بالسوء على تقبيلها، وسرعان ما اختطف منها قبله ثم هرب على وجهه، وهربت الفتاه ، وما كاد يستقر به المقام في مستقره الا واخذ يؤنب نفسه، وندم على فعلته – ولات حين مندم.
وكتم امره عن اصحابه، ولم يبح بسره لاحد، وبعد ايام عاد الى بلده وكان والده يطل منها على حوش الدار، حين طرق الباب السقا، فهرعت ابنته الى الباب تفتحه، وحمل السقاء قربته وصبها في الحب[2]،واخت الفتى تنتظره على الباب لتغلقه بعد مغادره السقاء الدار، وعاد السقاء بقربته الفارغه ، فلما مر بالفتاه قبلها، ثم هرب لا يلوي على شيء.
ولمح ابوها من نافذه غرفته ما حدث، فردد من صميم قلبه:
(لا حول ولا قوه الا بالله العلي العظيم)، ولم يقل الاب شيئا، ولم تقل الفتاه شيئا.
وعاد السقا في اليوم الثاني الى دار الرجل كالمعتاد، وكان مطاطئ الراس خجلا، وفتحت له الفتاه الباب، ولكنه لم يعد الى فعلته مره اخرى.
لقد كان هذا السقاء يزود الدار بالماء منذ سنين طويله ، كما كان يزود المحله كلها بالماء، ولم يكن في يوم من الايام موضع ريبه ، ولم يحدث له ان نظر الى محارم الناس نظره سوء، وكان في العقد الخامس من عمره، وقد ولى عنه عهد الشباب، وما قد يصحبه من تهور وطيش وغرور، وقدم الفتى الى الموصل، موفور الصحه ، وافر المال، ولم يفرح والده بالصحه وبالمال، لم يسال ولده عن تجارته ولا عن سفره، ولا عن اصحابه التجار في حلب.
لقد سال ولده اول ما ساله: ماذا فعلت منذ غادرت الموصل الى ان عدت اليها؟
وابتدا الفتى يسرد قصه تجارته، فقاطعه ابوه متسائلا: (هل قبلت فتاه ؟! ومتى واين؟)، فسقط في يد الشاب[3]،ثم انكر، واحمر وجه الفتى وتلعثم، واطرق براسه الى الارض في صمت مطلق كانه صخره من صخور الجبال، لا يتحرك ولا يريم[4].
ساد الصمت فتره قصيره من عمر الزمن، ولكنه كان كالدهر طولا وعرضا.
واخيرا، قال ابوه: لقد اوصيتك ان تصون عرض اختك في سفرك، ولكنك لم تفعل.
وقص عليه قصه اخته، وكيف قبلها السقاء، فلا بد ان هذه القبله بتلك وفاء لدين عليك، وانهار الفتى واعترف بالحقيقه .
وقال ابوه مشفقا عليه وعلى اخته وعلى نفسه: “اني لاعلم انني لم اكشف ذيلي في حرام، وكنت اصون عرضي حين كنت اصون اعراض الناس، ولا اذكر ان لي خيانه في عرض او سقطه من فاحشه ، وارجو الا اكون مدينا لله بشيء من ذلك، وحين قبل السقاء اختك تيقنت انك قبلت فتاه ما، فادت اختك عنك دينك، لقد كانت “دقه بدقه ، وان زدت لزاد السقا”[5]!!
الدروس المستفاده مما تقدم:
1- تجنب الجلوس في الطرقات الا لحاجه ماسه او لضروره طارئه .
2- مراعاه حق الطريق التي بينها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((اياكم والجلوس في الطرقات))، قالوا: يا رسول الله، ما لنا بد من مجالسنا؛ نتحدث فيها، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((اما اذا ابيتم، فاعطوا الطريق حقه))، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: ((غض البصر، وكف الاذى، والامر بالمعروف، والنهي عن المنكر))[6] .
فعليك اخي المبارك غض البصر، وكف الاذى (المادي والمعنوي، والاهم من ذلك هو حفظ اللسان؛ ففي حفظ اللسان راحه الانسان).
3- اياك والتطاول على اعراض الناس؛ فهي ليست لعبه بيدك، تقذف هذه وتتهم تلك بالباطل، واعلم ان لك اما واختا، وسيكون لك زوجه وبنت في المستقبل، فهل تقبل ان يتكلم عليها احد بالسيئ البذيء؟!
ورحم الله القائل:
يا هاتكا حرم الرجال وقاطعا
سبل الموده عشت غير مكرم
لوكنت حرا من سلاله ماجد
ما كنت هتاكا لحرمه مسلم
من يزن يزن به ولو بجداره
ان كنت يا هذا لبيبا فافهم
من يزن في بيت بالفي درهم
في اهله يزنى بربع الدرهم
وفي خضم الحديث عن التطاول على الاعراض، لا بد من ان نعرج على الحديث عن خطوره الكلمه في حد ذاتها، نعم، ايها المبارك كل “كلمه ” تتلفظ بها، اما علمت ان رسول الله – صلى الله عليه واله وسلم – قد حذر من خطوره الكلمه في احاديث عده .
ودعني اذكر لك بعضا منها:
ا- عن معاذ بن جبل، ان النبي – صلى الله عليه وسلم – ((قال له: الا ادلك على املك ذلك كله، قال: قلت: يا رسول الله، قولك الا ادلك على املك ذلك كله، قال: فاشار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بيده الى لسانه، قال: قلت: يا رسول الله، وانا لنؤاخذ بما نتكلم به، قال: ثكلتك امك معاذ، وهل يكب الناس على مناخرهم الا حصائد السنتهم))، قال شعبه : وقال الحكم: وحدثني به ميمون بن ابي شبيب، وسمعته منه منذ اربعين سنه [7].
ب- عن بلال بن الحرث المزني ان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((ان الرجل ليتكلم بالكلمه من رضوان الله، لا يظن ان تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانه الى يوم يلقاه، وان الرجل ليتكلم بالكلمه من سخط الله لا يرى ان تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بها سخطه الى يوم يلقاه))؛ هذا حديث حسن صحيح؛ اخرجه الترمذي، وابن ماجه القزويني في كتابيهما[8].
4- الجزاء من جنس العمل: هي قاعده اصوليه ، احتوتها كثير من كتب الفقهاء الاصوليين، دعنا نتعرف واياك على هذه القراءه بشكل موجز، فتكرم بمواصله القراءه مشكورا ماجورا.
هذه القاعده مطرده شرعا وقدرا؛ فان الله تعالى يجازي العبد من جنس عمله، ان خيرا فخير، وان شرا فشر، كما فطر عباده على ان حكم الشيء حكم مثله، وحكم النظير حكم نظيره.
قال شيخ الاسلام – رحمه الله -[9]: “فالحسنات والسيئات في كتاب الله يراد بها اعمال الخير واعمال الشر، كما يراد بها النعم والمصائب، والجزاء من جنس العمل، فمن عمل خيرا وحسنات لقي خيرا وحسنات، ومن عمل شرا وسيئات لقي شرا وسيئات، كذلك من عمل غيا لقي غيا، وترك الصلاه غي يلقى صاحبه غيا؛ فلهذا قال الزمخشري: كل شر عند العرب غي، وكل خير رشاد؛ كما قيل: فمن يلق خيرا يحمد الناس امره، ومن يغو لا يعدم على الغي لائما[10].
قال الامام ابن القيم – رحمه الله -: “ولذلك كان الجزاء مماثلا للعمل من جنسه في الخير والشر، فمن ستر مسلما ستره الله، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والاخره ، ومن نفس عن مؤمن كربه من كرب الدنيا نفس الله عنه كربه من كرب يوم القيامه ، ومن اقال نادما اقال الله عثرته يوم القيامه ، ومن تتبع عوره اخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن ضار مسلما ضار الله به، ومن شاق شاق الله عليه، ومن خذل مسلما في موضع يجب نصرته فيه خذله الله في موضع يجب نصرته فيه، ومن سمح سمح الله له، والراحمون يرحمهم الرحمن، وانما يرحم الله من عباده الرحماء، ومن انفق انفق الله عليه، ومن اوعى اوعى عليه، ومن عفا عن حقه عفا الله له عن حقه، ومن تجاوز تجاوز الله عنه، ومن استقصى استقصى الله عليه”؛ [اعلام الموقعين عن رب العالمين (1/214)].
قال امير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في كتاب القضاء الذي ارسله الى ابي موسى الاشعري – رضي الله عنهما -:(ومن تزين بما ليس فيه شانه الله).
قال ابن القيم – رحمه الله – في تعليقه على هذا الكتاب: “فانه اخفى عن الناس ما اظهر الله خلافه، فاظهر الله من عيوبه ما اخفاه عنهم، جزاء من جنس عمله، [اعلام الموقعين عن رب العالمين (2/160)].
قال بعض السلف: ان من ثواب الحسنه الحسنه بعدها، وان من عقوبه السيئه السيئه بعدها.
امثله على القاعده من القران الكريم والسنه النبويه المطهره :
1- اشار القران الكريم الى “قاعده الجزاء من جنس العمل” في اكثر من مائه موضع، نذكر منها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر:
ا- قوله تعالى: ﴿ جزاء وفاقا ﴾ [النبا: 26].
ب- قوله تعالى: ﴿ وجزاء سيئه سيئه مثلها فمن عفا واصلح فاجره على الله انه لا يحب الظالمين ﴾ [الشورى: 40].
ج- قوله تعالى: ﴿ ومن اعرض عن ذكري فان له معيشه ضنكا ونحشره يوم القيامه اعمى * قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك اتتك اياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ﴾ [طه: 124- 126]، قال ابن القيم – رحمه الله – في تفسير هذه الايه : “هذا الجواب فيه تنبيه على انه من عمى البصر، وانه جوزي من جنس عمله، فانه لما اعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله – صلى الله عليه وسلم – وعميت عنه بصيرته، اعمى الله بصره يوم القيامه ، وتركه في العذاب كما ترك الذكر في الدنيا، فجازاه على عمى بصره في الاخره وعلى تركه العذاب[11].
2- ومن السنه النبويه : حدثنا يحيى بن ايوب وقتيبه وابن حجر، قالوا: حدثنا اسماعيل – وهو ابن جعفر – عن العلاء، عن ابيه، عن ابي هريره ، ان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من صلى علي واحده ، صلى الله عليه عشرا))[12].
- صور بنات لبيبا يوم