الكاظمين الغيظ والنفس
والكاظمين الغيظ
الحمد لله رب العالمين، الحمد له على احسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، واشهد ان لا اله الا هو وحده لا شريك له، واشهد ان محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى اله وصحبه وسلم، اما بعد:
وصف الله – تبارك وتعالى – المتقين الذين يستحقون الجنه برحمته في قوله – تعالى -: {وسارعوا الى مغفره من ربكم وجنه عرضها السماوات والارض اعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}1؛ فجعل من صفاتهم التي يرتضيها لهم انهم يكظمون الغيظ، ويعفون عمن ظلمهم قال العلامه الشنقيطي – رحمه الله تعالى -: “وقد دلت هذه الايه على ان كظم الغيط والعفو عن الناس من صفات اهل الجنه ، وكفى بذلك حثا على ذلك، ودلت ايضا: على ان ذلك من الاحسان الذي يجب الله المتصفين به2″، وقال الامام الطبري – رحمه الله – في قوله: {والكاظمين الغيظ} يعني: والجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه، يقال منه: “كظم فلان غيظه” اذا تجرعه، فحفظ نفسه من ان تمضي ما هي قادره على امضائه باستمكانها ممن غاظها، وانتصارها ممن ظلمها، واصل ذلك من”كظم القربه ” يقال منه: “كظمت القربه ” اذا ملاتها ماء، و”فلان كظيم ومكظوم” اذا كان ممتلئا غما وحزنا؛ ومنه قول الله – عز وجل -: {وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم}3 يعني: ممتلئ من الحزن، ومنه قيل لمجاري المياه: “الكظائم” لامتلائها بالماء؛ ومنه قيل: “اخذت بكظمه” يعني: بمجاري نفسه4″؛ وقال ابن عباس – رضي الله عنه – في قوله: “{والكاظمين الغيظ} الى {والله يحب المحسنين} ف”الكاظمين الغيظ” كقوله: {واذا ما غضبوا هم يغفرون}5 يغضبون في الامر لو وقعوا به كان حراما فيغفرون ويعفون، يلتمسون بذلك وجه الله {والعافين عن الناس} كقوله: {ولا ياتل اولوا الفضل منكم والسعه }6 الى: {الا تحبون ان يغفر الله لكم}7 يقول: لا تقسموا على ان لا تعطوهم من النفقه شيئا واعفوا واصفحو8″، وقال قتاده – رحمه الله – في قوله: {الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}9: “قوم انفقوا في العسر واليسر، والجهد والرخاء، فمن استطاع ان يغلب الشر بالخير فليفعل، ولا قوه الا بالله، فنعمت والله يا ابن ادم الجرعه تجترعها من صبر وانت مغيظ، وانت مظلوم10″، وقال الالوسي – رحمه الله – في قوله – تعالى -: {والكاظمين الغيظ}: “اصل الكظم شد راس القربه عند امتلائها، ويقال: فلان كظيم اي ممتلىء حزنا، والغيظ هيجان الطبع عند رؤيه ما ينكر، والفرق بينه وبين الغضب على ما قيل: ان الغضب يتبعه اراده الانتقام البته ، ولا كذلك الغيظ، وقيل: الغضب ما يظهر على الجوارح والبشره من غير اختيار، والغيظ ليس كذلك، وقيل: “هما متلازمان الا ان الغضب يصح اسناده الى الله – تعالى -، والغيظ لا يصح فيه ذلك”، والمراد والمتجرعين للغيظ الممسكين عليه عند امتلاء نفوسهم منه فلا ينقمون ممن يدخل الضرر عليهم، ولا يبدون له ما يكره، بل يصبرون على ذلك مع قدرتهم على الانفاذ والانتقام، وهذا هو الممدوح11″.
وقال القطان في قوله – تعالى -: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} {والكاظمين الغيظ} اي: الذين يمسكون انفسهم عن الانتقام مع القدره عليه؛ ثم اردف – تعالى – بمزيه عظيمه اخرى وهي قوله: {والعافين عن الناس} اي: الذين يتجاوزون عن ذنوب الناس، ويتركون مؤاخذتهم مع القدره على ذلك، وتلك منزله من ضبط النفس وملك زمامها قل من يصل اليها، وهي ارقى من كظم الغيظ، اذ ربما كظم المرء غيظه على الحقد والضغينه ، فالله – سبحانه وتعالى – يريدنا ان نكظم غيظنا، ونعفو عن الناس، وننسى اساءتهم12”.
ومن القصص التي رويت في كظم الغيظ ما ذكره القرطبي – رحمه الله – عن ميمون بن مهران – رحمه الله -: “ان جاريته جاءت ذات يوم بصحفه فيها مرقه حاره ، وعنده اضياف، فعثرت فصبت المرقه عليه، فاراد ميمون ان يضربها، فقالت الجاريه : يا مولاي استعمل قول الله – تعالى -: {والكاظمين الغيظ}، قال لها: قد فعلت، فقالت: اعمل بما بعده: {والعافين عن الناس}، فقال: قد عفوت عنك، فقالت الجاريه : {والله يحب المحسنين}، قال ميمون: قد احسنت اليك، فانت حره لوجه الله – تعالى -13”.
وقد ورد في السنه في فضل كظم الغيظ احاديث كثيره نقتصر على بعضها فمنها:
– عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ما تجرع عبد جرعه افضل عند الله – عز وجل – من جرعه غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله – تعالى -))14.
– وعن سهل بن معاذ عن ابيه – رضي الله عنهما -: ان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من كظم غيظا وهو قادر على ان ينفذه دعاه الله – عز وجل – على رؤوس الخلائق يوم القيامه حتى يخيره الله من اي الحور العين شاء))15.
– وعن عائشه – رضي الله عنها – انها قالت: ((ما خير رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بين امرين الا اخذ ايسرهما ما لم يكن اثما، فان كان اثما كان ابعد الناس منه، وما انتقم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لنفسه الا ان تنتهك حرمه الله فينتقم لله بها))16.
فهذا بعض ما ورد في فضل كظم الغيظ والعفو، وقد ورد في القران جواز الانتقام ممن اعتدى والمعاقبه بالمثل.
وورد كذلك في فضل كظم الغيظ والعفو والصفح ايات مما يوهم التعارض والاضطراب، وقد فصل القول في ذلك العلامه المفسر الامام الشنقيطي – رحمه الله تعالى – فقال: “قوله – تعالى -: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}17الايه , هذه الايه تدل على طلب الانتقام, وقد اذن الله في الانتقام في ايات كثيره كقوله – تعالى -: {ولمن انتصر بعد ظلمه فاولئك ما عليهم من سبيل* انما السبيل على الذين يظلمون الناس}18الايه , وكقوله: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم}19, وكقوله: {ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله}20الايه , وقوله: {والذين اذا اصابهم البغي هم ينتصرون}21, وقوله: {وجزاء سيئه سيئه مثلها}22, وقد جاءت ايات اخر تدل على العفو وترك الانتقام كقوله: {فاصفح الصفح الجميل}23, وقوله: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس}, وقوله: {ولمن صبر وغفر ان ذلك لمن عزم الامور }24, وقوله: {خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين}25, وكقوله: {واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}26 والجواب عن هذا بامرين:
احدهما: ان الله بين مشروعيه الانتقام ثم ارشد الى افضليه العفو ويدل لهذا قوله – تعالى -: {وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}27, وقوله: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم}28, اذن في الانتقام بقوله:{الا من ظلم}29, ثم ارشد الى العفو بقوله: {ان تبدوا خيرا او تخفوه او تعفوا عن سوء فان الله كان عفوا قديرا}30.
الوجه الثاني: ان الانتقام له موضع يحسن فيه, والعفو له موضع كذلك, وايضاحه ان من المظالم ما يكون في الصبر عليه انتهاك حرمه الله, الا ترى ان من غصبت منه جاريته مثلا اذا كان الغاصب يزني بها فسكوته وعفوه عن هذه المظلمه قبيح وضعف وخور, تنتهك به حرمات الله, فالانتقام في مثل هذه الحاله واجب, وعليه يحمل الامر {فاعتدوا} الايه , اي كما بدا الكفار بالقتال فقتالهم واجب, بخلاف من اساء اليه بعض اخوانه من المسلمين بكلام قبيح ونحو ذلك فعفوه احسن وافضل, وقد قال ابو الطيب المتنبي:
اذا قيل حلم قل فللحلم موضع وحلم الفتى في غير موضعه جهل31
هذا ما تيسر القول فيه، والله – تبارك وتعالى – اعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد واله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
- والكاظمين الغيظ
- والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس
- والكاظمين الغيظ صور
- والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين اسلام ويب