الكلمات الاساسيه للتجديد
مازال موضوع التجديد الديني من الموضوعات المهمه التي يكثر الحديث عنها، وسنحاول في هذا البحث ان نلقي بعض الاضواء على هذا الموضوع الشائك، و لا ندعي الاحاطه والعصمه . وحسبنا ان ندلي بدلونا لشرح بعض القضايا المتعلقه بالتجديد والتي نشعر انها مازالت تحوم في فلك من المعاني الاجماليه والعمومات المطلقه التي تحتاج الى الامثله التطبيقيه التي تعين على الفهم وتساعد على ايجاد جو من الشجاعه لرياده افاق ومستويات من التجديد يصد عنها تهيب متردد وورع بارد.
تنطلق فكره التجديد من مقدمه اساسيه وهي ان الاسلام رساله رب العالمين الى الناس كافه ، وهذا العموم يشمل الزمان والمكان، فالاسلام هو الرساله الخاتمه للرسالات ولاوحي بعد محمد صلى ا عليه وسلم.
فمن لوازم خاتميه الرساله ان تنسجم طريقه فهمهما والتدين بها مع الاوضاع العالميه المتغيره والمتجدده في كل يوم. فليس من المعقول الوقوف عند ما قاله اقدمون او ماقاله السلف بحرفيته في كل المسائل التي خاضوها وتكلموا فيها انطلاقا من خلفيتهم في البيئه والثقافه والزمان والمكان، لان تفسيرهم وتطبيقهم او تنزيلهم للنصوص على واقعهم هو فهم وعمل انساني غير معصوم، والوحي او النص باطلاقه ومضمونه خالد معصوم.
ومن هنا فان عدم صلاحيه او مناسبه ما نراه في كتب التراث بشان بعض المشكلات الجديده او عدم وجود اي طرح لهذه المشكلات اصلا لا يعني ان الاسلام لا شان له بهذه المشكلات و لايعني المسلمين الخوض فيها والوقوف على وجه المصلحه والعدل فيها، ولكن هذا يعني ان هناك واجبا لم يقم به احد بعد.
ويبدا الخلاف عاده من تحديد من يقوم بهذا الدور، فالذين يعترفون بضروره التجديد لمواجهه الاوضاع الجديده المتغيره يتساءلون : اين المجدد ؟ فالمجدد – كما يرون – له شروط ومواصفات واحاطه بعلوم الاله من عربيه ومعاني ونحو وبلاغه واصول وحديث و…، الى اخر هذه القائمه الطويله . فلعدم وجود من يوثق باحاطته بهذه العلوم جميعا ويعترف له من الجميع بهذه الاحاطه يقولون ان الامر مغلق، ليس لاننا نحن الذين اغلقناه ولكن لعدم وجود المؤهل للقيام بهذه الوظيفه .
وهنا نحب ان نوضح ان هذه النقطه ليست محل خلاف، فالتجديد الذي ندعو اليه هو تجديد لا يتعلق باستنباط الاحكام من النصوص ولكنه يتعلق بتنزيل الاحكام. فاستيعاب الاحكام الشرعيه الثابته في القران والسنه وما ذهب اليه الائمه يعتبر مرحله اولى ومقدمه يستطيعها كثير من الناس – كل في مجال عمله واختصاصه.
ونضيف الى هذا ان فهم الواقع وعناصر هذا الواقع لتنزيل الحكم الشرعي عليه هو الامر الذي لم يقم به الناس بعد.
وقد نقل ابن القيم كلاما لطيفا في (اعلام الموقعين) عند شرح رساله عمر بن الخطاب في القضاء الى ابي موسى الاشعري و التي قال فيها : الفهم الفهم فيما ادلي اليك فانه لا ينفع التكلم بحق لا نفاذ له.
قال ابن القيم: ولايتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم الا بنوعين من الفهم: احدهما فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقه ما وقع بالقرائن والامارات والعلامات حتى يحيط به علما. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه او على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق احدهما على الاخر.
ففهم الواقع هو شرط اساسي لتنزيل الحكم الشرعي ( الذي هو الواجب في الواقع ) . لقد اعتدنا ان نفهم الاحكام الشرعيه مجرده عن الواقع، وندعي مناسبتها لاي واقع دون فهم هذا الواقع وعناصره ومقدماته وسياقه وقرائنه. فما ندعو اليه هو فهم للواقع و الصله الحقيقيه بالامه و احوالها و ما يجري فيها من توجهات و اعراف و ميول و نوازع ، ثم محاوله فهم للواجب في الواقع من خلال الاحكام الشرعيه الثابته . فالجهد المطلوب في كثير من القضايا لا يتعلق باستنباط حكم جديد وانما يتعلق باستنباط ما يصلح لهذا الواقع من الاحكام الشرعيه الثابته . وكلام سيدنا عمر في اخر الفقره التي اشرنا اليها يقول: الفهم الفهم فيما ادلي اليك فانه لا ينفع التكلم بحق لا نفاذ له. فاذا كنت اتكلم بكلام هو حق في نفسه اذا تجرد عن مقتضيات الزمان و المكان ، ولكن الواقع ياباه ولايناسبه فلا ينفع هذا الكلام، وهذه هي المشكله التي نعانيها مع صياغه الفكر الاسلامي او الفقه الاسلامي حيث يتكلم فيما يجب – لا فيما يمكن – مما لا نفاذ له . فكلام بشريعه لا علاقه لها بفهم الواقع كلام في فراغ.
وقد تكلم الامام الشاطبي بما يلقي اضواء على هذا الفهم لمعنى التجديد عندما تحدث عن الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط “وهو الذي لا خلاف بين الامه في قبوله، ومعناه ان يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله ” ؛ وقال في موضع اخر: “قد يتعلق الاجتهاد بتحقيق المناط فلا يفتقر في ذلك الى العلم بمقاصد الشارع كما انه لا يفتقر فيه الى معرفه علم العربيه ، لان المقصود في هذا الاجتهاد انما هو العلم بالموضوع على ما هو عليه وانما يفتقر فيه الى العلم بما لا يعرف ذلك الموضوع الا به ” . ( الموافقات ج4 ص29).
ويقرر الشاطبي في مكان اخر ان الاجتهاد في تحقيق المناط لا بد منه بالنسبه الى كل ناظر وحاكم ومفت بل بالنسبه الى كل مكلف في نفسه. فان العامي اذا سمع في الفقه ان الزياده الفعليه في الصلاه سهوا من غير جنس الصلاه او من جنسها ان كانت يسيره فمغتفره وان كانت كثيره فلا. فوقعت له في صلاته زياده فلا بد له من النظر فيها حتى يردها الى احد القسمين ولا يكون ذلك الا باجتهاد ونظر، فاذا تعين له قسمها تحقق له مناط الحكم فاجراه عليه. وكذلك سائر تكليفاته، ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الاحكام الشرعيه على افعال المكلفين الا في الذهن لانها مطلقات وعمومات… فلا بد من هذا الاجتهاد في كل زمان. اذ لا يمكن التكليف الا به، فلو فرض التكليف مع امكان ارتفاع هذا الاجتهاد لكان تكليفا بالمجال وغير ممكن شرعا كما انه غير ممكن عقلا (ج4 ص94). فالذي نقوله ان الاحكام قد تكون ثابته ومؤصله ومستنبطه ولكن تنزيلها على الواقع مشكل كبير، وكثير من الناس ينزلون على الواقع احكاما لا تتعلق به ابدا. ولا يمكن تحقيق المصالح التي شرعت لاجلها او تحقيق مقتضى الحكم فيها. هذا الاجتهاد في فهم الواقع والاجتهاد في تنزيل الحكم المناسب على هذا الواقع هو التجديد الذي نطالب به وندعو اليه.
ونضرب لذلك امثله يتبين منها ان التجديد هو تطبيق للحكم الثابت في صوره جديده تتناسب مع واقع جديد.
حكم الزكاه حكم شرعي ثابت بكتاب الله وسنه رسوله صلى الله عليه وسلم ولامجال للكلام فيه.وقد قرر الفقهاء ان الزكاه يجمعها ويوزعها الامير ذو السلطان وهذا واجب الدوله والامراء.
ولما الت ظروف المسلمين الى وضع تعطلت فيه هذه الوظيفه الاساسيه للدوله ، انبرى كثير من صلحاء الناس ووجهائهم الى تشكيل جمعيات ومؤسسات للقيام بهذه المهمه في اخذ الزكاه من الاغنياء وردها على الفقراء.
اذا نظرنا الى هذا الامر نجد فيه خروجا على نص الفتاوى المدونه في كتب الفقه الى طريقه جديده في تطبيق الحكم، ولم نسمع باي معترض على هذا الخروج على الفتوى المدونه الى شكل اخر من تحقيق مناط الحكم الشرعي الثابت، فاذا لم تقم الدوله بهذا الواجب ينبري فريق من الناس من اهل الامانه والثقه والمعرفه بالواقع الاجتماعي للقيام بهذه الفريضه ولا ننتظر حتى يقيض الله عالما بمقاصد الشريعه وعلوم الاله والاصول ليقول لنا ان من الممكن تحقيق الفريضه بطريقه اخرى تتناسب مع ظروف الواقع الاجتماعي.
والمثال الاخر: قرر الفقهاء ان الجهاد ومجاهده الكفار والدفاع عن بلاد المسلمين هو من واجبات ومسؤوليات الامير ذو السلطان او الحاكم المسلم والدوله المسلمه .
لما جاء الاحتلال الاوروبي الى اكثر بلاد المسلمين وغابت في الواقع السلطه المحليه وغابت امكانيه تجنيد الناس من قبل سلطه حاكمه قادره ومعترف بها. انبرى كثير من العلماء والوجهاء والكبراء لحمل مسؤوليه هذا العبء، و كثير من بلاد المسلمين تم تحريرها بثورات خاضتها الجماهير بقيادات شعبيه على راسها العلماء والمشايخ ومن لا علاقه لهم بصوره حكم ولا حكومه . ولم نسمع بمعترض على هذا التجديد ولم تسمع الامه ان السنوسيين او المهديين او الخطابين او اتباع الامير عبد القادر الجزائري او الشيخ محمد الاشمر في دمشق وغيرهم كثير…. لم نسمع ان هؤلاء لما نذروا انفسهم لسد الثغره والقيام بالواجب خالفوا ما نصت عليه كتب الفقه وانهم بذلك متجاوزون. لما ظهرت الحاجه لرد العدوان وتحرير الاوطان، ورد العدوان والجهاد بالشكل الذي صيغت به كتب الفقه غير ممكن فماذا نفعل ؟ لابد من فهم الواقع الجديد واختراع وسيله جديده لتطبيق الحكم الشرعي الثابت. هل يحتاج هذا الامر الى انسان عنده كل علوم الاله ليقوم بهذا الواجب ؟ والجواب ان لا، فهذا اجتهاد في تحقيق المناط يقوم به من ابتلي بمثل هذا الموقف، ولا عليه انه خالف ما عرفه الناس مما دون في كتب الفقه والشريعه من وسائل . هذا المعنى من التجديد هو عين ما نريد في كل ما ثبت ان واقع المسلمين قد تغير عما كانت عليه الحال عند تدوين الاحكام او الفتاوى الشرعيه .
فالمطلوب ان نفهم المعنى و المقصد من الحكم ، وننزل المعني والمقصد الثابت على الواقع الجديد المتغير بابتكار وسيله جديده مناسبه للواقع و الحال .
وقد عقد ابن القيم في ( اعلام الموقعين ) فصلا بعنوان تغيير الفتوى واختلافها بحسب تغير الازمنه والامكنه والاحوال والنيات والعوائد. وقال فيها : هذا فصل عظيم جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعه اوجب من الحرج والمشقه وتكليف ما لا سبيل اليه ما يعلم ان الشريعه الباهره التي هي في اعلى رتب المصالح لا تاتي به، فان الشريعه مبناها واساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمه كلها، ومصالح كلها، وحكمه كلها، فكل مساله خرجت عن العدل الى الجور، وعن الرحمه الى ضدها وعن المصلحه الى المفسده وعن الحكمه الى العبث فليست من الشريعه وان دخلت فيها بالتاويل. ج3 – ص41
ثم اتى ابن القيم باكثر من ثمانين مثالا لاحكام شرعيه ثبتت باحاديث صحيحه ثم نظر الصحابه والسلف الى ما تغير من احوال فتغيرت الفتوى لاختلاف المناط والاحوال والازمان والعوائد. و يعجب المرء من وجود ثمانين مثال على تغير الفتوى لتغير الاحوال ضمن جيل واحد، ويتساءل في الوقت نفسه الم يتغير من الاحوال والعوائد بعد ثمانمائه سنه عدد اكبر من هذه القضايا ؟
فالمطلوب هو المحافظه على المعنى والمقصد في الحكم و تنزيل ذلك المعنى و تطبيقه ليتناسب مع الواقع.
واحد الامثله التي ساقها ابن القيم ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ضاله الابل فقال للسائل دعها معها حذاؤها وسقاؤها، فلا يخشى على الابل الضاله هلاكا من جوع او عطش او افتراس فكان الامر بتركها. جاء عثمان رضي الله عنه وامر باخذ ضاله الابل، لما راى من اختلاف الاحوال والعوائد، فاذا كان الامر النبوي بترك ضاله الابل ينطلق من حفظ المال في مجتمع غلبت عليه الامانه فاذا قلت الامانه صار اتلاف المال بتسلط الايدي العاديه واردا ومحتملا، فالامر بالاخذ هنا حقق نفس المصلحه من الامر بالترك هناك. وهذا مثال واضح عن تغير الحكم بتغير الواقع، وهذا يمثل اعترافا من سيدنا عثمان ان الواقع الاجتماعي الذي حقق المقصد الشرعي اول مره لم يعد موجودا لتحقيق المقصد الشرعي في المره الثانيه .
راى الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه (كيف نتعامل مع السنه ) ان اعتماد الحساب في اثبات الهلال هو اولى من اعتبار الرؤيه المنصوص عليها. فالقضيه عنده لا تعدو مساله نص على وسيله تتناسب مع واقع عصر النبوه وليس هناك من مانع شرعي ولا عقلي من اختيار وسيله اعلى منها واثبت في تحقيق مقصد الاثبات ووحده الكلمه بين المسلمين.
فما يشهد به الواقع ان اعتماد الرؤيه في الاثبات كان يضمن الوحده عندما كانت المساله تتعلق ببلده او قريه ليس هناك من وسيله للعلم بما صنع بلد اخر على مسافه قصيره لاتتجاوز عشرات الاميال، فاذا صار الكون كله قريه صغيره بعد ثوره الاتصالات وامكانيه تبادل المعلومات بالهاتف والاقمار الصناعيه ، اصبح اعتماد الرؤيه مدعاه للتفرق وليس وسيله وحده كما كان الامر قبل ثوره الاتصالات. فالحادثه الكونيه التي تحدث في كل الدنيا في لحظه واحده هي الولاده الكونيه للهلال، فهذا امر لا يمكن الاختلاف عليه، فقول الشيخ القرضاوي باعتماد الحساب يسمع لانه يريد تحقيق مقصد الشريعه في الوحده من خلال اعتبار المقصد لا عين الوسيله المنصوص عليها، وهذا هو التجديد المطلوب كما نراه.
يتردد في كتب الفكر الاسلامي كلام طيب عن ضروره التجديد وضروره تحويل القيم الى برامج وضروره الانتقال من الحماس الى الاختصاص وهذا كله هو من صميم ما ندعو اليه من تجديد ولكني اخشى ان يكون في عمومات هذا الطرح ما يدفع الانسان الى الوقوع في الوهم بان امر التجديد يعالجه مختصون – بالمصطلح الغربي الاكاديمي – وهؤلاء وان وجدوا على ندرتهم لا نكاد نجد من تبلورت منهجيتهم ومرجعيتهم الاسلاميه وتوجههم الى هموم الامه وهويتها وذاتيتها. بالاضافه الى ان الحديث عن البرامج يوحي بان التجديد المطلوب – حصرا – هو تجديد في اعلى درجات السلم السياسي او العلمي او الاقتصادي فنرجع من الدعوه الى التجديد – ان فهمت بهذا الشكل – صفر اليدين لا نستطيع ان نخطو خطوه واحده على طريق تامين الكفايه ورفع العجز والوهن ، ويتصور الناس ان لا دخل لهم بهذه الدعوه الى التجديد وانهم ليسوا مخاطبين بها، والجميع ينتظر المعجزه وان يلهم الله من يتصدر سده القرار السياسي او الاقتصادي او العلمي ان يتوجه الى صياغه البرامج واستشاره اهل الخبره ممن نطمئن الى اسلاميه توجهه وانتمائه الى هموم الامه .
فاذا اضفنا الى ذلك الفهم الشائع لبشاره النبي صلى الله عليه وسلم بان الله سيبعث على راس كل مائه عام من يجدد لهذه الامه امر دينها، بان المجدد المقصود مجدد موسوعي يفقه كل شيء ويستطيع ان يعالج كل شيء، كان من الصعوبه بمكان ان نعرف من اين نبدا، وكيف تتحول الدعوه الى التجديد حافزا للامه على مختلف طبقاتها للتعبئه لرفع الوهن والعجز والتخلف.