المعجم السهل من طبيب لداء الحب

المعجم السهل من طبيب لداء الحب

قد يتساءل البعض هل العشق مرض؟

هكذا اعتبره اجدادنا الاطباء العرب المسلمون كالرازي وابن سينا والبغدادي وغيرهم.

اذا كيف اعتبروه ذلك؟ وما هي اسباب واعراض هذا المرض وكيف يتم علاجه؟..

من خلال هذه السطور سالقي الضوء على هذا المرض حسب ما ذكره الاطباء العرب المسلمون الاوائل.
لمحه تاريخيه عن مرض العشق:
اعتبر العشق على انه شكل مفرط من اشكال المحبه . وفي الوقت الذي ينظر فيه الى الحب على انه اسمى عاطفه يتحلى بها الانسان، فقد اعتبر العشق انه عباره عن حاله مرضيه تحدث نتيجه للمغالاه الشديده في الحب، مما ينعكس ذلك باثار سلبيه على شخصيه العاشق تتظاهر باضطرابات جسميه ، فضلا على الاضطرابات السلوكيه والتي كثيرا ما تدفع الشخص المصاب لان يرتكب تصرفات غير عقلانيه .

لقد عالج الادباء العرب ومنهم الشعراء هذا الموضوع في شعرهم الغزلي بشكل خاص، واعتبره الكثير منهم بانه المرض الذي لا يرجى شفاؤه. من ذلك مثلا قول ابن الفارض:

وضع الاسي(1)بصدري كفه قال مالي حيله في ذا الهوي

ومن ذلك ايضا ما تذكره كتب الادب عن محاوره جرت بين مصاب بالعشق ينشد علاجا لعشقه واحد الشعراء يسديه النصيحه :

ايا معشر العشاق بالله خبروا اذا حل عشق بالفتى ما يصنع؟

يداري هواه ثم يكتم سره ويخشع في كل الامور ويخضع

وكيف يداري والهوى قاتل الفتى وفي كل يوم قلبه يتقطع

فان لم يجد صبرا لكتمان سره فليس له سوى الموت ينفع

سمعنا اطعنا ثم متنا فبلغوا سلامي لمن كان للوصل يمنع

في حين ان الاطباء المسلمين القدامى، وعلى نحو مخالف للشعراء، قد نظروا الى هذا المرض على انه حاله مرضيه كغيره من الامراض العصبيه او النفسيه كالصرع والصداع والسوداء(2) له اسبابه المرضيه وعلاماته واعراضه وعلاجه. فافاضوا في شرحه موضحين ان لهذا المرض علاجات مختلفه تطبق حسب حاله المريض وحسب درجه ثقافته، بالاضافه لطبيعه الظروف المحيطه به.

ولعل اول من تكلم في مرض العشق من الاطباء هو الطبيب اليوناني ابقراط Hypocrites والملقب بابي الطب. حيث قال واصفا اياه: “العشق طمع يتولد في القلب وتجتمع فيه مواد من الحس. فكلما قوي ازداد صاحبه في الاهتياج واللجاج وشده القلق وكثره السهر. وعند ذلك يكون احتراق الدم واستحالته الى السوداء، ومن طغيان السوداء وفساد الفكر يكون الفدامه (3) ونقصان العقل، ورجاء ما لم يكن وتمني ما لم يتم حتى يؤدي ذلك الى الجنون. فحينئذ ربما قتل العاشق نفسه، وربما مات غما. وربما وصل الى معشوقه فيموت فرحا او اسفا. وانت ترى العاشق اذا سمع بذكر من يحب كيف يهرب دمه ويستحيل لونه. وزوال ذلك عمن هذه حالته بلطف من رب العالمين، لا بتدبير الادميين(4)”.

وقد وصف جالينوس Galen هذا المرض بقوله: “العشق استحسان ينضاف اليه طمع، والعشق من قبل النفس، وهي كامنه في الدماغ والقلب والكبد. والعاشق يمتنع عن الطعام والشراب لاشتغال الكبد، وعن النوم لاشتغال الدماغ بالتخيل وذكر المعشوق والتفكير فيه، فتكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت فيه. فمتى لم تشتغل فيه وقت الفراق لم يكن عاشقا(5)”.

اسباب مرض العشق:

يقول ابن سينا في ذكر اسباب هذا المرض: “هذا مرض وسواسي شبيه بالمالينخوليا(6) Melancholy ، يكون الانسان قد جلبه الى نفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور والشمايل التي له، سواء اعانته على ذلك شهوته ام لم تعنه(7)”.

وقد اضاف بعضهم الى ذلك بان هذا المرض يعتري العزاب والبطالين من اهل الرعاع. ويتحدث ابن هبل البغدادي عن اليه حدوث هذا المرض فيقول: “العشق مرض يعرض من ادامه الفكر في استحسان بعض الصور الحاصله في الخيال وادامه النظر اليها وتحريك النفس شوقا الى استحضار ما هي مثاله، ويساعد على ذلك الحركات الشهوانيه فيعرض من ذلك شيء من الجفاف واليبس المؤدي الى المالينخوليا(8)”. من حديث البغدادي يمكن لنا ان نفسر لماذا اتى مرض العشق بعد مرض المالينخوليا في المؤلفات الطبيه العربيه القديمه .

الاعراض والعلامات:

اجمل سبط المارديني في مخطوطته الطبيه المسماه الرساله الشهابيه في الصناعه الطبيه اعراض وعلامات مرض العشق قائلا: “وعلامته غؤور العينين وجفافهما الا عند البكاء، وغلظ الجفن من كثره السهر والابخره المتصاعده اليه. ويعرف معشوقه بوضع اليد على نبضه وذكر اسماء وصفات، فاذا اختلف النبض عرف انه هو (9)”.

لقد اجمع اكثر الاطباء العرب المسلمون الذين تحدثوا عن مرض العشق ان اضطراب النبض هو من العلامات الهامه لتشخيص مرض العشق بل وحتى معرفه هويه المعشوق. ومرد ذلك يعود الى حكايه تروى عن ابن سينا والذي الف رساله في العشق كتبها لابن عبد الله الفقيه(10).

وملخص هذه الحكايه ، انه وقع احد الفتيان من ابناء امراء فارس في مرض عضال، وقد عجز الاطباء في ذلك الوقت عن معرفه هذا المرض وبالتالي علاجه. فكان الشاب ينحل ويضعف يوما بعد يوم، وقد امتنع عن الطعام لانعدام الشهيه حتى هزل ولزم الفراش. ولما عجز الاطباء عن ايجاد الدواء الشافي لمرض هذا الفتى، لجا اهله لابن سينا يرجونه زياره المريض والنظر في حالته بعد ان يئسوا تماما من شفائه. وفور وصول ابن سينا الى بيت المريض سال عن اعراض سقمه وما ال اليه حاله. ثم دخل على الفتى وفحصه بعنايه ، وجلس بجانب فراشه ووضع اصبعه على نبضه، ثم طلب من احد الخدم ان يعدد جميع احياء تلك البلد، ولما وصل الخادم الى ذكر حي ما لاحظ ابن سينا ان نبض الفتى قد تسرع. وعندئذ طلب من الخادم ان يذكر اسماء العائلات التي كانت تقطن ذلك الحي، ولما اتى الخادم على ذكر اسم معين من تلك الاسماء شعر بان نبض الفتى قد تسرع اكثر. وهنا سال ابن سينا ان كان لتلك العائله من بنات فاجابوه نعم، فقام من توه الى اهل الفتى وقال لهم لقد بان السبب فزال العجب ان ابنكم عاشق احدى بنات تلك العائله ، وهذا هو المرض وعلاجه بالزواج من تلك الفتاه .

هذه القصه الطريفه تفسر انه لماذا اكثر الاطباء العرب المسلمون الذين تحدثوا عن مرض العشق قد اعتبروا اضطراب النبض لدى ذكر المعشوق هو من العلامات التشخيصيه لهذا المرض. يقول ابن سينا في علامات هذا المرض: “وعلامته غؤور العين ويبسها وعدم الدمع الا عند البكاء، وحركه متصله للجفن ضاحكه كانه ينظر الى شيء لذيذ او يسمع خبرا سارا او يمزح. ويكون نفسه كثير الانقطاع والاسترداد فيكون كثير الصعداء. ويتغير حاله الى فرح وضحك او الى غم وبكاء عند سماع الغزل ولاسيما عند ذكر الهجر والنوى. وتكون جميع اعضاؤه ذابله خلا العين، فانها تكون مع غؤور مقلتها كبيره الجفن سميكته لسهره. ويكون نبضه نبضا مختلفا بلا نظام البته كنبض اصحاب الهموم، ويتغير نبضه وحاله عند ذكر المعشوق خاصه وعند لقاءه بغته . ويمكن من ذلك ان يستدل على المعشوق انه هو اذا لم يعترف به، فان معرفه معشوقه احد سبيل علاجه. والحيله في ذلك ان تذكر اسماء كثيره تعاد مرارا وتكون اليد على نبضه، فاذا اختلف بذلك اختلافا عظيما وصار شبه المنقطع ثم عاود وجرب ذلك مرارا علمت منه اسم المعشوق. ثم يذكر كذلك السكن والمساكن والحرف والصناعات والبلدان، وتضيف كلا منها الى اسم المعشوق ويحفظ النبض، حتى اذا كان يتغير عند ذكر شيء واحد مرارا جمعت من ذلك خواص معشوقه من الاسم والحرفه ما عرفته. فانا قد جربنا هذا واستخرجنا به ما كان الوقوف عليه منفعه (11)”.

يمكن تلخيص اعراض وعلامات مرض العشق كما ذكرها الاطباء المسلمون القدامى: النحول – قله الشهيه – غؤور العين مع سماكه الجفن – حب العزله مع الاسترداد وكثره الصعداء – اضطراب النبض وخاصه تسرعه لدى ذكر المعشوق او اي شيء يتصل به.

المعالجه :

لقد اجمع الاطباء العرب المسلمون الذين تحدثوا عن مرض العشق ان افضل وانجع علاج لهذا المرض هو الجمع بين العاشق والمعشوق وذلك على نحو تبيحه الشريعه .

يقول سبط المارديني في ذلك: “العلاج لاشيء كالوصال لمن يتهيا على الوجه الشرعي، والا اهين وقبح بفعله، واشغاله ببعض العلوم العقليه ومجالس اهل الفضل ثم استفراغ بعض السوداء. ويكثر من صب الماء على الراس. ويطعم البطيخ والقثاء والبقله ، ويسقى الرايب الحامض، ويؤمر ان ينام تحت الندى. وذكروا ان النظر الى القمر عند امتلائه يمنع هذا المرض. وينصح بكثره الاغتسال بالماء البارد ايضا. ولا يعطى الاشياء الحاره من الادويه والاغذيه والاهويه (12)”.

مما سبق يمكن ان نذكر مقومات علاج مرض العشق على النحو التالي:

اولا- محاوله الجمع بين العاشق والمعشوق بالزواج ان امكن، وفي ذلك يقول ابن هبل البغدادي: “العلاج لاشيء انفع من الجمع بين العاشق ومعشوقه على وجه تبيحه الشريعه ، فانه يصلح ويبرا. وان لم يكن فالنظر من بعيد، والا فالتسويف(13)”.

ويوضح ابن سينا هذه الحقيقه بقوله: “ثم ان لم تجد علاجا الا تدبير الجمع بينهما على نحو يبيحه الدين والشريعه فعلت، وقد راينا من عاودته السلامه والقوه ، وعاد الى لحمه. وكان قد بلغ الذبول وجاوزه، وقاسى الامراض الصعبه المزمنه والحميات الطويله بسبب ضعف القوه لشده العشق. ولما احس بوصل من معشوقه بعد مطل معاوده في اقصر مده قضينا به العجب، واستدللنا على طاعه الطبيعه لاوهام النفس(14)”.

ثانيا- نصح العاشق وتعنيفه على افعاله اذا كان من العقلاء. يقول ابن سينا ايضا: “وان كان العاشق من العقلاء فان النصيحه والعظه له والاستهزاء به وتعنيفه والتصوير لديه ان ما به انما هو وسوسه وضرب من الجنون، مما ينفع نفعه، فان الكلام ناجع في مثل هذا الباب(15)”.

ثالثا- اشغال العاشق ببعض العلوم العقليه ومجالس اهل الفضل، او اشغاله ببعض الامور الدنيويه الاخرى التي تصرف تفكير العشق عن كثره التفكير بمعشوقه. وقد تفنن الاطباء العرب في هذا المجال بابتكار الوسائل التي من شانها ان تحقق هذا الغرض. فمن هذه الامور ذكروا:

1-اشغال المريض ببعض العلوم العقليه ومجالس اهل الفضل، وذلك اذا كان ممن عنده الاستعداد لذلك. واذا كان من المتدينين فيمكن تسليته باخبار الزهاد والعباد والمساكين.

2- اذا كان العاشق صاحب صنعه او عمل او شغل الزم بعمله او شغله فلا شيء اضر عليه من البطاله والفراغ.

3- طول السفر عن مكان اقامه المعشوق، حيث ان ذلك مما يولد النسيان مع مرور الزمن.

4- ذكر بعض الاطباء –كابن سينا- انه من الناس يسليه الطرب والسماع، ومنهم من يزيد ذلك من غرامه، ويمكن ان يتعرف ذلك.

5- مما ينفع هؤلاء ايضا مجالس السرور واللهو والفرح، والتنزه وكثره النظر الى القمر. وهذه كلها اعتبرت من الامور التي تصرف تفكير العاشق عن معشوقه.

رابعا- افراغ المره السوداء من الجسم والقضاء على مفاعلاتها السلبيه في الجسد، وذلك بالتجفيف والتبريد. لذلك نصح الرازي بكثره الاغتسال بالماء البارد، وحذر من الاشياء الحاره من الادويه والاغذيه . وكذلك نصح بالنوم في الاماكن البارده .

خامسا- الميل لتناول بعض الاغذيه التي لها صفه التبريد مثل الرايب الحامض والبطيخ والقثاء والبقله وغيرها من الاطعمه التي تساعد على استفراغ المره السوداء وبالتالي تحقق غايه التبريد.

سادسا- اخيرا فقد نصح بعض الاطباء لمعالجه هذا المرض بان تسلط بعض العجائز على العاشق، بحيث يجتهدن في ان ينقلن هوى العاشق الى غير ذلك المعشوق بالتدريج، ثم يقطعن صنيعهن قبل ان يتمكن الهوى الثاني.

مرض العشق والطب الحديث:

في نهايه هذا البحث لابد لي من ان اشير الى مرض العشق من الوجهه الطبيه الحديثه . فقد يتساءل البعض لماذا لا تبحث المؤلفات الطبيه الحديثه ولاسيما كتب الطب النفسي ما سمي قديما بمرض العشق؟

للجواب على ذلك لابد لنا ان نعلم ان مرض العشق يمكن ان نعبر عنه حاليا على انه شكل من اشكال الشده العاطفيه Emotional stress التي يخضع لها المريض. وهذه الشده العاطفيه وبحسب درجاتها قد ينجم عنها مرضيات نفسيه مختلفه وذلك حسب شخصيه المريض وخلفيته الاجتماعيه وظروفه المحيطه به، فضلا عن استعداده الشخصي. فبعض الذين يخضعون لشده عاطفيه شديده قد يصابون بعصاب القلق Anxiety neurosis، ومنهم من يصاب بحاله الارتكاس الهمودي Reactive depression ، كما قد يصاب بعض المرضى الذين عندهم اصلا شخصيه شبه فصاميه بحالات فصام Schizophrenia صريحه ، كما هو الحال في الفصام الشبابي او ما يسمى بفصام المراهقه . من ذلك نستنتج ان ما كان يعرف بمرض العشق هو عباره عن احد اشكال الشده العاطفيه التي قد تؤدي لحدوث اضطرابات نفسيه خطيره يمكن لها ان تؤدي في بعض الاحيان لحدوث خطر الانتحار، وخاصه عند الذين اصيبوا بحاله الهمود الارتكاسي.