شرح حديث ( لكل داء دواء )

شرح حديث ( لكل داء دواء )



شرح حديث: (لكل داء دواء…)

عن جابر، عن رسول الله صلي الله علية و سلم انه قال: ((لكل داء دواء، فاذا اصيب دواء الداء، برا باذن الله عز و جل)).

المفردات:


لكل: جار و مجرور، خبر مقدم، و (كل) من العبارات التي تفيد العموم، و فاغلب استعمالها تكون مضافة ، و ربما تنون، فيصبح تنوينها عوضا عن المضاف اليه، نحو قولة تعالى: ﴿ قل جميع يعمل علي شاكلتة ﴾ [الاسراء: 84]؛ اي: جميع انسان، او جميع احد، و لا تدخل عليها “ال” فكلام عربى فصيح؛ لانها مضافة لفظا او تقديرا، فاصبحت بهذة الاضافة معرفة او فحكم المعرفة ، و مثلها (بعض)[1].

داء: مضاف اليه، و الداء: المرض، و هو نوعان: بدني، و هو ما يصيب الانسان فجسمه، كالحمي و الصداع و القروح و غيرها من الامراض المادية ؛ و روحي، و هو ما يصيب الانسان فروحة و نفسه، كقسوة القلب و غلظته، و سوء الخلق و رداءته، و منة النفاق و الحسد و الكبر، و العياذ بالله تعالى! و يجمع الداء علي ادواء.

دواء: مبتدا مؤخر، و الدواء: ما يعالج بة الداء طلبا للشفاء، و هو نوعان كذلك: روحى معنوي، كالرقي و الدعاء و الاستغفار؛ و حسى ما دي: كالعسل، و الحجامة ، و العقاقير المعروفة فعلم الطب، و منة الكي، و هو اشدها، و يجمع الدواء علي ادوية ، كما يجمع الشفاء علي اشفية .

ولا يجوز من الدواء روحيا كان او ما ديا الا ما اذن بة الشرع، و افضلة ما و رد فالكتاب العزيز و السنة النبوية ، و لا سبيل الي معرفة طب القلوب و الارواح الا من قبل الوحي، و اما طب الابدان، فيرجع معظمة الي التجربة .

فاذا اصيب دواء الداء:


الفاء للعطف و الترتيب، و (اذا) ظرف للمستقبل من الزمان، و المشهور انه خافض لشرطة منصوب بجوابه[2]، و اصيب: فعل ما ض مبنى للمجهول فعل الشرط، و دواء: نائب الفاعل، و الداء: مضاف اليه، و اصل الجملة : فاذا اصاب المريض دواء دائه؛ اي: و جدة و صادفه، حذف الفاعل؛ لانة غير معين فلا يتعلق بة غرض خاص، و اقيم المفعول مقامة فارتفع ارتفاعه.

برا: اي سلم و عوفي، جواب الشرط، يقال: برا من مرضة يبرا برءا، و برئ بالكسر برءا فهو بارئ؛ اي: معافى، و يقال: برئ من العيب براءة ؛ مثل: سلم سلامة ، و زنا و معنى.

باذن الله عز و جل: متعلق بجواب الشرط، و اذنة تعالى: ارادتة و مشيئته.

المعني الاجمالي:


اشتمل الحديث علي جملتين: اسمية افادت العموم، و فعلية شرطية مرتبة عليها.

بين النبى صلي الله علية و سلم فالجملة الاولي انه ما من مرض فهذا الوجود – روحيا كان او بدنيا – الا و له دواء يعالج به، علمة من علمه، و جهلة من جهله، و بين فالجملة الاخري التي رتبها علي سابقتها انه اذا و افق الدواء الداء، و اذن الله تعالي بالشفاء، عوفى المريض من مرضه، و سلم من دائه، فهذان شرطان للبرء لا بد منهما:


اصابة الداء و موافقتة للدواء، بان يصبح مناسبا له فكميتة و كيفيتة و زمان تعاطية و مكانه، و تلقية بالقبول، و لا سيما الدواء الربانى و الطب النبوي.

واذن الله تعالي و مشيئته، فما شاء الله كان، و ما لم يشا لم يكن ﴿ و ما تشاؤون الا ان يشاء الله ﴾ [الانسان: 30].

وفى معني ذلك الحديث قولة صلي الله علية و سلم: ((ما انزل الله داء، الا انزل له شفاء))؛ رواة البخارى عن ابى هريرة ؛ اي: ما اصاب الله عبدا بداء الا جعل له دواء يبرئه، بينة الله تعالي فكتبه، او علي لسان انبيائة و رسله، او هدي الية من شاء من عبادة بالهام صادق او تجربة موفقة .

بعض ما يؤخذ من الحديث:


1- دل الحديث بافادتة العموم علي ان الله تعالي خلق ادوية لجميع الامراض، حتي الناشئة عن السموم القاتلة ، و المستعصية علي الاطباء المهرة ، و لكنة سبحانة طوي علمها عنهم فلم يجعل لهم اليها سبيلا؛ تحقيقا لقولة – جل شانة -: ﴿ و هو القاهر فوق عبادة ﴾ [الانعام: 18]، و قولة سبحانه: ﴿ و ما اوتيتم من العلم الا قليلا ﴾ [الاسراء: 85].

2- كما دل الحديث علي ان التداوى من الاسباب المادية للشفاء، فلا تاثير له الا باذنة و ارادتة عز سلطانه، فكما لا يلزم من و جود الداء العلم بالدواء، لا يلزم من و جود الدواء تحقيق الشفاء، بل قد اخر الدواء داء اخر، و قد تحقق البرء من غير دواء، كما شوهد فعديد من الاحيان.

3- و فالحديث مشروعية التداوي؛ بل استحبابه، و انه لا ينافى التوكل، بل هو من جملته؛ اذ لا تتم حقيقة التوحيد الا بالاخذ فالاسباب التي نصبها الله تعالي مقتضيات لمسبباتها قدرا و شرعا، فتعطيلها يقدح فالتوكل نفسه، فان الصادق فتوكلة يمتثل ما امر بة من الاخذ فالاسباب، معتمدا علي العزيز الوهاب، و قد و جب التداوى شرعا اذا كان فتركة تعطيل امر و اجب من و اجبات المعاش او المعاد، لا جرم ان المرض الشديد يحول بين المريض و خير كثير، و ربما جاء الامر بالتداوى صريحا فقولة صلي الله علية و سلم: ((تداووا عباد الله، فان الله – عز و جل – لم ينزل داء الا انزل معة شفاء، الا الموت و الهرم))؛ رواة الامام احمد و غيرة عن اسامة بن شريك[3].

4- و الحديث يشير اشارة لطيفة الي لطفة سبحانة بعبادة و رحمتة بهم، اذ ابتلاهم بالادواء و اعانهم عليها بالادوية ، كما ابتلاهم بالذنوب و اعانهم عليها بالتوبة و الحسنات الماحية .

5- و بهذا الايضاح يرد الحديث علي غلاة الصوفية الذين ينكرون التداوي، و يقولون: ان المرض بقضاء الله و قدره! غافلين او متغافلين عن ان التداوى ايضا بقضاء الله و قدره، بل جميع ما يقع فالكون بقضاء الله و قدره، و من هذا اقرب الحاجات الينا الجوع و العطش، و ربما امرنا بدفعهما بالطعام و الشرب، كما امرنا بدفع المضار، و قتال الكفار، و جهاد النفس و الهوى، و نهينا عن الالقاء بايدينا الي التهلكة ، مع ان الاجل لا يتغير، و المقادير لا يتقدم شيء منها و لا يتاخر.

من مباحث الحديث:


(ا) هل ذلك الحديث عام باق علي عمومة كما يستفاد من (كل) الموضوعة للعموم، او هو عام مخصوص بالهرم – و هو كبر السن – و بالموت، كما فحديث اسامة بن شريك المتقدم؟


قيل: انه عام مخصوص، و معناة ان لكل داء دواء الا داءين اثنين لا دواء لهما البتة ، هما: الهرم و الموت، و لكن ذلك التخصيص لا يتم الا اذا عددنا الهرم و الموت مرضين حقيقيين، و قلنا: ان الاستثناء متصل؛ اي: انهما من جنس الامراض الحقيقية ، فان قلنا: انهما ليسا من الامراض الحقيقية ، و انما سماهما الرسول صلي الله علية و سلم داءين علي التشبية بالمرض الذي تنتهى بة الحياة ، فالاستثناء حينئذ منقطع.

وعلي هذا، فالحديث باق علي عمومه، ليس مخصوصا و لا معارضا بحديث اسامة ، و الامر بالتداوى مطلوب فكل حال ممكنة : ﴿ فاذا جاء اجلهم لا يستاخرون ساعة و لا يستقدمون ﴾ [الاعراف: 34].

(ب) و هل الحديث بما دل علية من مشروعية التداوي: جوازا او استحبابا او و جوبا – معارض بحديث السبعين الفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، و ربما و صفهم النبى صلي الله علية و سلم بانهم ((لا يسترقون و لا يتطيرون و لا يكتوون، و علي ربهم يتوكلون))؛ رواة الشيخان و غيرهما عن ابن عباس؟ ففى ذلك الحديث الصحيح و صف هؤلاء المتوكلين بانهم لا يطلبون الرقية و لا يتداوون بالكي، و ربما قدمنا ان الاخذ فاسباب الشفاء لا يمنع من التوكل، بل هو من جملته.

وقد اجيب عن ذلك التعارض بجملة اجوبة :


منها: ان التوكل درجات بعضها فوق بعض، و هؤلاء السبعون الفا بلغوا الغاية فالتوكل، و ان التداوى و الاخذ فالاسباب لمن دونهم من المتوكلين، و فهذا الجواب ضعف؛ لان سيد المتوكلين صلوات الله و سلامة علية تداوي و امر بالتداوي، و رقي نفسة و رقاة جبريل، و امر بالرقي الماذون فيها، و ظاهر ان هذا كلة علي سبيل الاستحباب، لا لبيان الجواز فقط كما قيل.

ومنها: ان هؤلاء المتوكلين لا يسترقون برقي الجاهلية ، و لا يكتوون معتقدين ان للكى تاثيرا بذاته، و ذلك الجواب اضعف من سابقه؛ لان من رقي او استرقي برقي الجاهلية ليس من المتوكلين اصلا، و ايضا من اعتقد ان للكى او للدواء تاثيرا بذاته، فهو ضعيف الايمان، و يخشي علية الزلل، فما ابعدة عن التوكل و المتوكلين (السبعين)! و من القواعد الشرعية ان المزية لا تقتضى الافضلية ، فاذا امتاز هؤلاء السبعون الفا بهذة الفضيلة ، ففى الامة المحمدية ممن لم يتميز فيها من هم اروع منهم فالجملة ، و لهذا شواهد كثيرة لا تحصى[4].

ومما يزيد ذلك الجواب قوة و قبولا ما جاء فحديث رفاعة الجهنى عن النبى صلي الله علية و سلم: ((وعدنى ربى ان يدخل الجنة من امتى سبعين الفا بغير حساب، و انى لارجو الا يدخلوها حتي تبوءوا انتم و من صلح من ازواجكم و ذرياتكم مساكن فالجنة ))؛ الحديث رواة الامام احمد و صححة ابن حبان[5].

فقد دل علي ان مزية السبعين بالدخول بغير حساب، لا تستلزم انهم اروع من غيرهم، بل فيمن يحاسب فالجملة حسابا يسيرا من يصبح اروع من هؤلاء السبعين.

[1] و من هنا انكر الاصمعى علي ابن المقفع ادخالة “ال” عليهما فقوله: العلم كثير، و لكن اخذ البعض خير من ترك الكل؛ انظر: المصباح.


[2] و رجح ابن هشام فالمغنى انه منصوب بشرطه، و ليس خافضا له، و انظره.


[3] انظر روايات الحديث فالمسند، و الجامع الصغير، و منتقي الاخبار، و فتح الباري، و ارشاد الساري، و زاد المعاد…


[4] منها: ان حذيفة بن اليمان رضى الله عنهما، كان يمتاز بما اعلمة رسول الله صلي الله علية و سلم من اخبار الفتن الي يوم القيامة ، و مع هذا فليس هو باروع من الخلفاء الراشدين، و لا من العشرة المبشرين بالجنة ، رضوان الله عليهم اجمعين.


[5] و ربما و قع فاحاديث اخري ان مع السبعين الفا زيادة عليهم؛ ففى حديث ابى هريرة عند احمد و البيهقى فالبعث… عن ابى هريرة عن النبى صلي الله علية و سلم: ((فوعدنى ان يدخل الجنة من امتي…)) فذكر الحديث و زاد: ((فاستزدت ربى فزادنى مع جميع الف ثمانين الفا))؛ و سندة جيد؛ انظر: الفتح فكتاب الرقاق، باب يدخل الجنة سبعون الفا بغير حساب.

 

  • شرح بالتفصيل لكل ذاء دواء


شرح حديث ( لكل داء دواء )